منذ سنتين كنت اذا
ما سألتني من أين انتي ؟ تتملكني الحيرة و الارتباك ؟!!!! و لا أدري ما أقول؟ لم
أنتمِ الى تلك البيوت الباردة و الأجساد الباردة في تلك البلدة التي عشت فيها ,
كنت أعلم أنّي أنتمي الى مكان أخر مكان فسيح يزهر الربيع فيه و تنبت الأزهار فيه
في مكان غير القبور. لم أنتم الى تلك المدينة الفراتية البعيدة النائمة على ضفاف
نهر تتدفق مياهه وفاءاً لتاريخ قديم, وفاءاً لأيام الفيضان و الخير العميم, قبل أن
يتغيّر, ففي" بلادي يغيّرون تاريخ نهر". طالما شعرت بأن خيوطا كخيوط
شباك العنكبوت الواهية تربطني بهذا المكان أو ذاك , فأنا لم أكن أزور مدينتي
الفراتية كثيراً ربما لأنها كانت مشغولةً عنّي بعطش نهرٍ صيفي شتوي و غفوةٍ لم
تصحو منها الا قريباً.
عندما كنت أسأل
نفسي من أنت و من أين تأتين كان عقلي يلفظ لي أجوبة بلدات و مدن..... مقسّمة بعيدة
عن بعضها , ترى منذ متى و نحن نفكّر ببلادنا كمدن لا تربطها حتّى روابط الدم !!!
لم يخطر يوما ببالي أن أقول: أنا سوريّة و حسب ! و الجواب الذي كان يستحيل وجوده
هو أنا عربية أنتمي لكل تلك البلاد الممتدة تحت الشمس الحارقة و المبللة بمياة
البحر الأبيض المتوسط . كنّا ننادي بالوحدة و لكنني كنت أحسّ بالفردية كما لم أشعر
بها من قبل. كانت المناوشات بين أبناء بلدتي و البلدة المجاورة البعيدة خمس دقائق
تصل الى شجار و مشاحنات و سيناريوهات مبتذلة ! منذ متى و نحن نعيش الفرديّة و
تنقوقع على نفسنا و نخاف الأخر. منذ متى كان مستحيلا على عقلي أن يفكّر بوطن
متكامل بل كان يقطع أوصاله في كلّ درس جغرافيا الى شمال و جنوب و منطقة شرقية !
أزمة انتماء
............ هذا ما كان يعتريني ! و ما كنت أكتب عنه في دفتر يومياتي القديم, لم
أكن أعلم ما الذي حصل للبشر من حولي و ما
حصل لي أيضا ! غريب أن لا يكون لك مكان انتماء , أن لا تعلم ما هو وطنك. غريب أن
تبني أحلامك على أراض أعجمية منذ صغرك و أرضك العربية تتوق للأحلام, خالية من الحياة,
غير صالحة للاستثمار, ملغيّة من خريطة أمالك!
ولكن اليوم
........... كل شيء مختلف في بلدي !
اليوم أمحي كلّ
تاريخ التساؤلات عن هويّتي, فأنا عربيّة سوريّة, فلسطينيّة الهوى, تونسيّة الشواطئ
مصريّة التاريخ يمنيّة الأصالة بحرينيّة اللئالئ ......
في تلك المدرسة
الفرنسيّة و في صباح فرنسيّ هادئ وقفت أشرح لطلّاب لم يسمع بعضهم بسورية و ليبيا عن
شعبنا الذي أراد الحياة. و على رمال بحيرة أعجمية المياه فرنسية الرمال و الهويّة
رسمت لؤلائك الأوروبيين خريطة بلادي و مدنها الملتهبة بالشموخ . في بلادي فقط يزهر
الربيع في الصيف و الشتاء, في بلادي فقط يزيد العطش من همّة المسافر فتذيب الثلج
عن قلبه الذي تحجّر لتاريخ , في بلادي فقط نحرق أيام سباتنا و خوفنا و صمتنا مع
الشعارات المهترئة لنتدفئ عليها في ليال شتاء قارسة, فتحضن الجزيرة والساحل جبل
الشخ و سهل حوران و تمسك القرى أيديها ببعضها لتدفئ بحرارة إيمانها و إرادتها
أطفالا يتعلمون في مدرسة الكرامة دروسا عن المحبة و الوطن.
الأن في الرابع عشر من شهر كانون الثاني سنة
الفين و اثنا عشر ..... عمري قانونيا
عشرون عاماً و أربعة أيام, أعلن عن نفسي نسف خارطة الأحلام القديمة تلك, أعلن انتهاء الأزمة و انتهاء الأسئلة ففي
حرم الوطن تخضع جوارحك و تزهر أحلامك و تنتهي كلّ الأسئلة.
اخفض جوارحك واشعر
بمهابة التاريخ الذي يدوَّن فإن أطياف
الذين سبقوا ما تزال حولنا ترفرف كحمام دمشقّي في ساحة الأمويّ عند شروق الشمس .
أخفض جوارحك و استمع لقلبك بنبض بعد الموت, أخفض جوارحك و أشعر بنشوة الشموخ في
تلك الأهازيح . أشعر بالدمع يلهب عينيك على غيبوبة صحوت منها تواً, أخفض جوارحك
ودع روحك تصرخ كطفل وليد اللحظة. أخفض جوارحك فدموع الأمهات و زغاريدهنّ لم تسكت
بعد و طفل يتيم ثائر قد تعلّم في مدرسة الوطن بيوم وحيد خير من ما تعلّمته في
شهادة الدكتوراه المعلّقة على حائط مهجور في بيتك .
أخفض جوارحك فإن
للمقدسات حرمتها وأنت الآن في حرمة وطن !
14-12-2011